فصل: تفسير الآية رقم (143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}.
قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان:
أحدهما: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهرًا، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضًا كالرجل يعمل عملًا، فيطعن فيه بعض أعدائه، فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون عليَّ فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد، فإذا ذكروه مَرَّة، فسيذكرونه بعد ذلك مرات، فصحّ على هذا التأويل أن يقال: سيقول السُّفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية.
قال القرطبي: {سيقول} بمعنى: قال؛ جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول.
و{السفهاء} جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم.
والنساء سفائه.
وقال المؤرج: السَّفيه: البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم.
وقال قُطْرب: الظلوم الجهول.
القول الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد.
أحدها: أنه- عليه الصلاة والسلام- إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخبارًا عن الغيب فيكون معجزًا.
وثانيها: أنه- تعالى- إذا أخبر عن ذلك أولًا، ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولًا.
وثالثها: أن الله- تعالى- إذا أسمعه ذلك أولًا، ثم ذكر جوابه معه، فحين يسمعه النبي- عليه الصلاة والسلام- منهم يكون الجواب حاضرًا، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضرًا.
قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ} في محلّ نصب على الحال من {السفهاء} والعامل فيها {سيقول}، وهي حال مبينة، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازًا، فرفع المجاز بقوله: {مِنَ النَّاسِ} ذكره ابن عطية وغيره.
قوله: {ما وَلاّهُمْ} {ما} مبتدأ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب، والجملة بعدها خبر عنها و{عن قبلتهم} متعلّق ب {ولاّهم}، ولابد من حذف مضاف في قوله: {عليها} أي: على توجهها، أو اعتقادها، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله: {عليها} مجاز، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء، والله أعلم.

.فصل في الكلام على التولّي:

وَلاَّه عنه: صرفه عنه، وولى إليه بخلاف ولّى عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16]. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (143):

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين استقامة القبلة التي وجههم إليها عرف أنها وسط لا جور فيها فاتبع ذلك قوله: {وكذلك} أي ومثل ما جعلنا قبلتكم وسطًا لأنها إلى البيت العتيق الذي هو وسط الأرض وهو بناء إبراهيم عليه السلام هو أوسط الأنبياء وهو مع ذلك خيار البيوت فهو وسط بكل معنى {جعلناكم} بالهداية إليه في الاستقبال وإلى غيره مما نأمركم به {أمة}.
قال الحرالي: من الأم وهو تتبع الجملة والعدد بعضها لبعض إلى أن ينتهي لإمام أول، فالإمام والأمة كالمتقابلين، الإمام قاصد أممًا، والأمة قاصدة إمامها الذي هو أممها، والإمام ما بين اليدين بمشهد الحس وسبيل القصد. انتهى.
{وسطًا} أي شريفة خيارًا، لأن الوسط العدل الذي نسبة الجوانب كلها إليه سواء، فهو خيار الشيء.
قال أبو تمام الطائي:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ** بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

وسالك الوسط من الطريق محفوظ من الغلط، ومتى زاغ عن الوسط حصل الجور الموقع في الضلال عن القصد؛ ففي هذا أنهم لما ادعوا الخصوصية كذبوا وردت حججهم ثم أثبتت الخصوصية لهذه الأمة؛ والوسط بالتحريك اسم لعين ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة، وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة مثلًا، وكذا كان ظرفًا، فالأول يجعل مبتدأ وفاعلًا ومفعولًا به، ولا يصح شيء من هذا في الساكن- قاله الأصبهاني.
ومادة وسط مهموزة وغير مهموزة واوية ويائية بتراكيبها الأحد عشر: وسط، وطس، سوط، سطو، طوس، طسو، طيس، طسى، سيط سطأ طسأ، تدور على العدل السواء الذي نسبته إلى كل جانب على التساوي، ويلزم أن يكون أعلى من غيره، لأن أكثر المخلوقات كُريّ؛ وكل ما كان في وسط الكرة كان أعلى، ولأن كل جزء بعد الوسط إذا نسبته إلى الطرف الذي يليه كان ما بينه وبينه أقل مما بينه وبين الوسط؛ ويلزم العدل الجودة ويلزم العلو الغلبة والسطوة والكثرة والشدة، وقد يلزم العلو الاضطراب فيأتي الاختلاط والاقتطاع والضعف؛ فمن الأصل الوسط من كل شيء أعدله، ووسط الشيء ما بين طرفيه، فإذا سكنت السين كان ظرفًا أو هو فيما هو مصمت فإذا كانت أجزاؤه متخلصة متباينة فبالإسكان؛ ووسطه قطّعه نصفين، وتوسط بينهم عمل الوساطة وأخذ الوسط بين الرديء والجيد، ووسط القوم وتوسطهم هو وسط فيهم أوسطهم نسبًا وأرفعهم محلًا وهو المتوسط بين القوم، وواسطة الرحل ما بين قادمته وآخرته، وأوطاس واد بديار هوازن لما وصفه به دريد بن الصمة من أنه لا حزن ضرس ولا سهل دهس، أي يثقل المشي فيه بكونه شبه الرمل وما هو برمل ولا تراب.
ومن الجودة وهي ملزومة لحسن الوسط الباب، والصلاة الوسطى أفضل الصلوات، والطاووس طائر حسن، والجميل من الرجال والفضة، والأرض المخضرة فيها كل ضرب من النبت، والمطوس كمعظم الشيء الحسن، والطوس بالفتح القمر وحسن الوجه ونضارته بعد علة، وتطوست المرأة تزينت، وطواس كسحاب ليلة من ليالي المحاق كأنه من باب الإزالة أو بالنظر إلى أن النجوم في شدة الظلام أحسن.
ومن العلو: سطا الفرس أبعد الخطو، والساطئ الفرس البعيد الخطوة والذي يرفع ذنبه في حضره، والطويل وواسط الكور مقدمه، ومن الشدة والغلبة: صار الماء وسيطه غلب على الطين، وسطا عليه وبه صال أو قهر بالبطش، والراعي على الناقة أدخل يده في رحمها ليخرج ما فيها من ماء الفحل، والفرس ركب رأسه، وساطاه شدد عليه؛ والساطي الفحل المغتلم يخرج من إبل إلى إبل، وسطأها مهموزًا كمنع جامعها؛ والوطس كالوعد الضرب الشديد والكسر، والوطيس التنور وحرّ الحرب، والوطيس شدة الأمر، وككَتّاب الراعي، وتواطسوا عليّ أي تواطحوا أي تداولوا الشر بينهم، والموج تلاطم، وأوطاس واد بديار هوازن لأنه أشد مما هو رمل صرف، والسوط الذي يضرب به والشدة والضرب، والمسواط فرس لا يعطى حضره إلا بالسوط، والسياط قضبان الكراب الذي عليه دماليقه أي عراجينه والكراب أصول السعف الغلاظ العراض، وسوَّط أخرج ذلك، والطوس بالفتح الوطء وبالضم دوام الشيء ودواء يشرب للحفظ، وطواس كسحاب ليلة من ليالي المحاق، وما أدري أين طوّس به أي ذهب به وطسى كرضى طس غلب الدسم على قلبه فاتخم كطسا أي واويًا؛ وطسيء مهموزًا أيضًا كفرح وجمع طَسأ وطساء فهو طسيء اتخم أو تغير من أكل الدسم، وأطسأه الشبع ونفسي طاسئة ويدخل هذا في الاضطراب والاختلاط والضعف.
ومن الكثرة الوسط وهي الناقة تملأ الإناء ويدخل في الجيد، الطيس العدد الكثير، وكل ما في وجه الأرض من تراب وقِمام أو خلق كثير النسل كالذباب والنمل والهوام أو دقاق التراب كالطيسل في الكل وكثرة كل شيء من الرمل والماء وغيرهما؛ وسطا الماء كثر؛ والسويطاء مرقة كثيرة الماء، ومن الاختلاط سياط ككتاب مغن مشهور؛ وسطا الطعام ذاقه؛ والساطئ الفحل المغتلم يخرج من إبل إلى إبل، وسطا الراعي على الناقة أدخل يده في رحمها ليخرج ما فيها من ماء الفحل؛ والسوط الذي يضرب به والخلط والضرب، والسياط قضبان الكراب الذي عليه دماليقه، وسوط باطل ضوء يخرج من الكوّة، وسطت الشيء بالسوط ضربته به، والسوط أيضًا ما يخلط به كالمسواط وولد لإبليس، والمسواط فرس لا يعطى حُضره إلا بالسوط، واستوط أمره اضطرب واختلط، وأموالهم سويطة بينهم مختلطة، والطوس بالضم دواء يشرب للحفظ، والطاووس طائر والأرض المخضرة فيها كل ضرب من النبت، ومن الاقتطاع الطاس أي الإناء يشرب فيه، والسوط النصيب والفضلة من الغدير.
ومن الضعف الوسط من بيوت الشعراء وهو أصغرها، وطسأ كمنع مهموزًا استحيى.
ولما أثبت لهم الوسط الذي من حله كان جديرًا بأن لا يخفى عليه شيء من الجوانب واستلزم ذلك كونه خيارًا قال: {لتكونوا} أي أنتم لا غيركم {شهداء} كما أفاده التعبير بهذا دون أن يقال: لتشهدوا، وقال: {على الناس} أي كافة.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أوسطهم قال: {ويكون الرسول} أي لا غيره بما اقتضاه اختصاصه بكونه وسط الوسط {عليكم} خاصة {شهيدًا} بأنكم تابعتموه وصدقتموه فكنتم خير أمة أخرجت للناس، وبأنه قد بلغكم مدة حياته، فلما مات خلف فيكم كتابًا معجزًا متواترًا لا يغسله الماء ولا تحرقه النار، لأنه محفوظ في الصدور متلو بالألسن إلى أن يأتي أمر الله، ولذلك عبر بأداة الاستعلاء فافهم صوغ الكلام هكذا: إنهم حازوا شرفين أنه لا يشهد عليهم إلا الرسول، وأنه لا يحتاج في الشهادة على سائر الأمم إلى غير شهادتهم دفعًا لتوهم أن غيرهم يشهد عليهم كما شهدوا عليهم، ولتوهم أن غيرهم لا يكتفى في الشهادة عليه إلا بشهادة الرسول كما لم يكتف فيهم إلا بذلك.
ولما أعلم بما {سيقول السفهاء} [البقرة: 142] وعلم جوابهم وبين سر التحويل بين علة التوجيه إلى قبلتين بقوله: {وما جعلنا} أي بعظمتنا التي لا يقاويها أحد {القبلة} قال الحرالي: في جملته إنباء بأن القبلة مجعولة أي مصيرة عن حقيقة وراءها ابتلاء بتقليب الأحكام ليكون تعلق القلب بالله الحكيم لا بالعمل المحكم، فالوجهة الظاهرة ليكون ذلك علمًا على المتبع عن صدق فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيان ما وجهه، وعلى المجيب عن غرض ظاهر ليس يسنده صدق باطن فيتعلق من الظاهر بما لا يثبت عند تغيره. انتهى.
وبين أنها الأولى بقوله: {التي كنت عليها} وبين أن العلة التمييز بين الناس بقوله: {إلا لنعلم} أي بما لنا من العظمة بالجنود والرسل وغيرهم حين وجود الأمر بالتحول عنها {من يتبع الرسول} في كل ما يأمر به اتباعًا دالًا على تمكن إيمانه {ممن ينقلب} أي يرتد فيدبر بعد إقباله متنكسًا {على عقبيه} علمًا متعلقًا بموجود تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، والعقب مؤخر القدم.
وقال الحرالي: لنجعل علمًا ظاهرًا على الصادق وغيره يشتمل العلم به من علم الغيب قبل كونه وبعد كونه، ومن لم يعلم الغيب إلا عن علم بما ينبئني عنه نون الاستتباع فهذا وجهه ووجه ما يرد من نحوه في القرآن والسنة. انتهى.
ثم بين شدتها على من أخلد إلى العادة لغلبة القوة الحيوانية البهيمية ولم يتمرن في الانقياد للأوامر الإلهية على خلع الإلف وذل النفس فقال: {وإن كانت} أي الجعلة {لكبيرة} أي ثقيلة شاقة جدًا لأن مفارقة الألف بعد طمأنينة النفس إليه أمر شاق جدًا، ثم استثنى من أيده سبحانه بروح منه وسكينة فقال: {إلا على الذين هدى الله} أي خلق الذي له الأمر كله الهداية في قلوبهم فانقادوا لما هداهم إليه بنصيب الأدلة.
ولما كان قبولهم لهذا الأمر وثباتهم عند تغير الأحكام إنما كان عن إيمان وعلم محيط جعل الله عز وجل أعمالهم وتوجههم للقبلة الأولى من الإيمان فقال: {وما كان الله} الذي له الكمال المطلق {ليضيع} قال الحرالي: مما منه الضياع والضيعة وهو التفريط فيما له غناء وثمرة إلى أن لا يكون له غناء ولا ثمرة {إيمانكم} أي المصرح به في قولكم: {آمنا بالله} [البقرة: 8] المشار إلى صدق الدعوى فيه بقولكم: {ونحن له مخلصون} [البقرة: 139] في شيء من الأشياء لا في صلاتكم إلى القبلة الأولى، ولا في تمييز الصادق منكم من المنافق بالامتحان بتغيير الأحكام من القبلة وغيرها ولا في اختصاصكم به سبحانه دون أهل الكتاب الجاحدين لآياته الناكبين عن مرضاته الناكثين لعهوده.
ولما نزه نفسه المقدسة عن جميع هذه الإضاعة علل ذلك بما هو أعم فقال: {إن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {بالناس} أي الذين هم أعم من المؤمنين وغيرهم ممن ينوسون بين حال الهدى والفتنة {لرءوف} أي فيرحم من يشاء ممن توصل إليه بعمل صالح رأفة منه به، فإن الرأفة كما قال الحرالي في التفسير عطف العاطف على من لم يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، قال: والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم، وقال في شرح الأسماء: إن المرءوف به تقيمه عناية الرأفة حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يُستدعى العفو لأجله على علنه. انتهى.
وذلك مقتضى لكونها أشد الرحمة وأبلغها وألطفها كما قالوه {رحيم} لمن يشاء ولو لم يكن منه سعي في الوصلة فتقتلعه من ذنوبه اقتلاعًا أشد ما كان بها اعتلاقًا فتقيمه فيما ترضاه الإلهية وذلك مع موافقته لما قاله العلماء ترق من العالي إلى الأعلى، فإن رحمة من لا سبب منه تقتضي العطف عليه أبلغ في نوعها من حيث كونها ابتداء والأولى أبلغ في نفسها لما اقتضاها من السبب، فإن كان المراد بالناس العرب فهو بشارة له صلى الله عليه وسلم بأنه يقر عينه بجعلهم من حزبه بالتثبيت لمن كان إذ ذاك مقبلًا والإقبال لمن كان مدبرًا.
وإن كان المراد أعم منهم فهو بشارة باتباع أكثر الخلائق له صلى الله عليه وسلم، فإذا نزل عيسى عليه السلام وقع العموم الحقيقي في الطريق المحمدي باتباع الكل له صلى الله عليه وسلم والله أعلم؛ ويجوز أن يكون تعليلًا للكلام من أوله فيكون المعنى أن صفتي رأفته ورحمته مقتضيتان للتمييز بين المؤمنين وغيرهم للعدل بين الناس، لأن تسوية المصلح بالمفسد يؤلم المصلح وسيأتي إن شاء الله تعالى في آخر براءة ما ينفع استحضاره هنا. اهـ.
سؤال: الكاف في {كذلك} كاف التشبيه، والمشبه به أي شيء هو؟
الجواب: فيه وجوه. أحدها: أنه راجع إلى معنى يهدي، أي كما أنعمنا عليكم بالهداية، كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطًا. وثانيها: قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطًا. وثالثها: أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصطفيناه في الدنيا} [البقرة: 130] أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطًا. ورابعها: يحتمل عندي أن يكون التقدير: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 115] فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكًا لله وملكًا له، خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلًا منه وإحسانًا فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلًا منه وإحسانًا لا وجوبًا. وخامسها: أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورًا إذا كان المضمر مشهورًا معروفًا كقوله تعالى: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله: {وكذلك جعلناكم} أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطًا. اهـ.
سؤال: ما المراد من الوسط؟
الجواب: اختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمورًا. أحدها: أن الوسط هو العدل والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى، أما الآية فقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي أعدلهم، وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمة وسطًا قال عدلًا» وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الأمور أوسطها» أي أعدلها، وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوسط قريش نسبًا، وقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالنمط الأوسط» وأما الشعر فقول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ** إذا نزلت إحدى الليالي العظائم

وأما النقل فقال الجوهري في الصحاح: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} أي عدلًا وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب، وأما المعنى فمن وجوه. أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيدًا عن الطرفين فكان معتدلًا فاضلًا. وثانيها: إنما سمي العدل وسطًا لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين. وثالثها: لا شك أن المراد بقوله: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفًا ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهودًا له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله: {وسطًا} ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودًا إلا بكونهم عدولًا، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة. ورابعها: أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
القول الثاني: أن الوسط من كل شيء خياره قالوا: وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه: الأول: أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب الكشاف: اكتريت جملًا من أعرابي بمكة للحج فقال: أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى. الثاني: أنه مطابق لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
القول الثالث: أن الرجل إذا قال: فلان أوسطنا نسبًا فالمعنى أنه أكثر فضلًا وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يتحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى.
القول الرابع: يجوز أن يكونوا وسطًا على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابنًا وإلهًا ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه.
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم. اهـ.